فصل: الحكم الإجمالي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


توأم

التّعريف

1 - التّوأم لغة‏:‏ اسم لولد يكون معه آخر في بطن واحد، ولا يقال توأم إلا لأحدهما، ويقال للأنثى توأمة، والولدان توأمان، والجمع توائم‏.‏ وأتأمت المرأة وضعت اثنين من حمل واحد فهي متئم‏.‏ جاء في لسان العرب‏:‏ أنّ التّوأم من جميع الحيوان المولود مع غيره في بطن من الاثنين إلى ما زاد ذكرا كان أو أنثى أو ذكرا مع أنثى‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ قال الجرجانيّ‏:‏ التّوأمان هما ولدان من بطن واحد بين ولادتهما أقلّ من ستّة أشهر‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالتّوائم

ذكر الفقهاء أحكام التّوائم في عدّة مواطن وهي كما يلي‏:‏

في النّفاس‏:‏

2 - اختلف الفقهاء في حكم الدّم الخارج بين التّوأمين، أو التّوائم، أهو دم نفاس، أم استحاضة، أم حيض ‏؟‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة - وهو الرّاجح عند الحنابلة - إلى أنّ نفاس أمّ التّوأمين أو التّوائم يبدأ من الأوّل، لأنّ ما بعد ولادة الولد الأوّل دم بعد ولادة، فكان نفاسا كالمنفرد‏.‏

فإن تخلّل بينهما أكثر النّفاس وهو - أربعون يوما - عند الحنفيّة والحنابلة، وستّون يوما عند المالكيّة والشّافعيّة لم يكن ما بعده نفاسا عند الحنفيّة والحنابلة، بل هو دم استحاضة وفساد، ولا نفاس من الثّاني لأنّه تبع للأوّل‏.‏ روي أنّ أبا يوسف قال لأبي حنيفة‏:‏ أرأيت لو كان بين الولدين أربعون يوما قال‏:‏ هذا لا يكون‏.‏ قال‏:‏ فإن كان قال‏:‏ لا نفاس لها من الثّاني ولكنّها تغتسل وقت أن تضع الثّاني وتصلّي‏.‏

أمّا عند المالكيّة فإن تخلّل بين ولادة التّوأمين أقلّ من ستّين يوما فنفاس واحد، وإن تخلّل بينهما أكثر النّفاس وهو ستّون يوما فنفاسان، وتستأنف للثّاني نفاسا مبتدأ إذا كان بين الأوّل والثّاني ستّة أشهر الّتي هي أقلّ مدّة الحمل لأنّها ولادة ثانية مستقلّة‏.‏

وقال بعض الحنابلة‏:‏ إنّ بداية النّفاس تكون من الأوّل ونهايته تكون من الثّاني، لأنّ الثّاني ولد فلا تنتهي مدّة النّفاس قبل انتهائها منه، فعلى هذا تزيد مدّة النّفاس على الأربعين في حقّ من ولدت توأمين أو أكثر‏.‏ وذهب محمّد وزفر وآخرون من الحنابلة وهو القديم من مذهب الشّافعيّ إلى أنّ النّفاس يبدأ من الثّاني فقط، لأنّ مدّة النّفاس تتعلّق بالولادة فكان ابتداؤها وانتهاؤها من الثّاني، وعلى هذا فما تراه المرأة من الدّم قبل ولادة الثّاني أو الأخير من التّوائم لا يكون نفاسا، وإنّما يكون استحاضة‏.‏

أمّا الجديد عند الشّافعيّة فإنّ الدّم الخارج بين التّوأمين أو التّوأم حيض،وهو الرّاجح عندهم‏.‏

في اللّعان والنّسب‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو استلحق الرّجل أحد التّوأمين أو التّوائم ونفى الآخر لحقوا به، لأنّ الحمل الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره، فإن ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة بجعل ما نفاه تابعا لما استلحقه، لأنّ النّسب يحتاط لإثباته لا لنفيه‏.‏ وإن استلحق أحدهما وسكت عن الآخر لحق به المسكوت عنه، لأنّه لو نفاه للحقه، فإذا سكت كان أولى‏.‏

وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر لحقا به جميعا، لأنّ حقّ النّسب مبنيّ على التّغليب، وهو يثبت بمجرّد الإمكان‏.‏

4 - واختلف الفقهاء فيما لو أتت المرأة بولد فنفاه بعد الولادة باللّعان، ثمّ ولدت آخر توأما للأوّل بأن كانت بينهما مدّة أقلّ من ستّة أشهر‏.‏

فذهب الجمهور إلى أنّ الولد الثّاني لا ينتفي باللّعان الأوّل، لأنّه تناول الولد الأوّل وحده‏.‏ فإذا أراد نفي الثّاني فعليه أن ينفيه بلعان آخر، ولا يحتاج في اللّعان الثّاني إلى إعادة ذكر الولد الأوّل‏.‏ ويرى المالكيّة أنّ اللّعان الأوّل لعان في حقّ الثّاني لأنّهما من حمل واحد‏.‏ ولكن الفقهاء اتّفقوا على أنّه لو أقرّ بالولد الثّاني بعد نفيه للولد الأوّل لحقه الثّاني والأوّل، وعليه حدّ القذف، لأنّه أكذب نفسه، لأنّ الإقرار بثبوت نسب بعض الحمل إقرار بالكلّ‏.‏ وكذا إن سكت بعد ولادة الولد الثّاني ولم ينفه لحقاه جميعا، إلا أنّه في هذه المسألة الأخيرة ليس عليه حدّ، لأنّه لم يناقض قوله الأوّل، ولحوق الولد الأوّل به هو حكم الشّرع‏.‏

5 - واختلفوا في الميّت من التّوأمين هل يحقّ للرّجل أن ينفيه أم لا ‏؟‏

فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ له أن يلاعن لنفي الميّت من التّوأمين أو التّوائم، كما أنّ له أن يلاعن لنفي الحيّ منهما ولنفي الحيّ والميّت جميعا، لأنّ نسبه لا ينقطع بالموت، بل يقال مات ولد فلان، وهذا قبر ولد فلان، ولأنّ عليه مؤنة تجهيزه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو نفاهما فمات أحدهما أو قتل قبل اللّعان لزمه نسبهما، لأنّه لا يمكن نفي الميّت، لانتهائه بالموت واستغنائه عنه‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ ومنها - أي شروط اللّعان - أن يكون الولد حيّا وقت قطع النّسب وهو وقت التّفريق، فإن لم يكن لا يقطع نسبه من الأب حتّى لو جاءت بولد فمات ثمّ نفاه الزّوج يلاعن ويلزمه الولد، لأنّ النّسب يتقرّر بالموت فلا يحتمل الانقطاع‏.‏

وإذا لم ينتف الميّت من التّوأمين لم ينتف الحيّ منهما لأنّهما حمل واحد، وعليه فيلزمه نسب الحيّ، وله أن يلاعن لنفي الحدّ عنه‏.‏ واتّفق الفقهاء على أنّه إذا نفى الحمل باللّعان ووضعت المرأة توأمين أو توائم انتفوا باللّعان جميعا، سواء ولدوا متعاقبين أو تخلّلت بينهم فترة تقلّ عن ستّة أشهر، لأنّه لاعن عن الحمل، والحمل اسم لجميع ما في البطن‏.‏

في الإرث‏:‏

6 - تطرّق علماء الفرائض في أبواب إرث الحمل إلى مسألتين تتعلّقان بالتّوائم‏:‏

الأولى‏:‏ افتراض الحمل بأنّه توأمان أو توائم عملا بالأحوط في حقّه‏.‏ واختلفوا في العدد الّذي يفترض من التّوائم‏:‏ فذهب الجمهور إلى أنّه يوقف نصيب توأمين من التّركة، لأنّ ولادة التّوأمين كثيرة ومعتادة، وما زاد عليهما نادر، فلا يوقف لما زاد شيء‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ في الرّاجح عندهم - إنّ الحمل لا يتقدّر بعدد ولا يتحدّد بحدّ معيّن لعدم انضباطه، فيوقف المال كلّه إذا كان من الممكن أن يحجب بقيّة الورثة بالتّوائم، وإن لم يكن من الممكن حجبهم وهم من أصحاب الفرائض المقدّرة أعطي لهم حظّهم من التّركة، وإن لم يكن لهم نصيب مفروض لم يعطوا شيئا حتّى تضع الحامل‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ في المرجوح يوقف نصيب أربعة أولاد ذكور‏.‏

والتّفاصيل في مصطلح ‏(‏إرث‏)‏‏.‏

المسألة الثّانية‏:‏ إذا ولدت الحامل بعد موت المورّث توأمين فاستهلّ أحدهما وماتا ولم يعلم المستهلّ بعينه، فإن كانا ذكرين، أو أنثيين، أو ذكرا وأنثى، لا يختلف ميراثهما فلا فرق بينهما، وإن كانا ذكرا وأنثى يختلف ميراثهما، فقد اختلف العلماء فيهما‏:‏

فقال ابن قدامة‏:‏ ذهب الفرضيّون إلى أن تعمل المسألة على الحالين ويعطى كلّ وارث اليقين، ويوقف الباقي حتّى يصطلحوا عليه‏.‏ ثمّ قال ابن قدامة‏:‏ ويحتمل أن يقسم بينهم على حسب الاحتمال‏.‏ والتّفاصيل في مصطلح ‏(‏إرث‏)‏‏.‏

في العدّة‏:‏

7 - اتّفق الفقهاء على انقضاء عدّة الحامل بانفصال جميع الولد إذا كان الحمل واحدا ولكنّهم اختلفوا فيما تنقضي به العدّة إذا كان الحمل اثنين أو أكثر‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ عدّتها لا تنقضي إلا بوضع آخر التّوائم، لأنّها لا تكون واضعة لحملها ما لم يخرج كلّه، والحمل اسم للجميع‏.‏

وذهب عكرمة وأبو قلابة إلى أنّ العدّة تنقضي بأوّل التّوائم، ولكنّها لا تتزوّج حتّى تضع الأخير من التّوائم‏.‏

في الجناية على الجنين

8 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو ضرب بطن امرأة حامل فألقت جنينين أو أجنّة ففي كلّ واحد غرّة لأنّه ضمان آدميّ فتعدّد بتعدّده‏.‏

وإن ألقتهم أحياء في وقت يعيشون في مثله، ثمّ ماتوا ففي كلّ واحد دية كاملة‏.‏

وإن كان بعضهم حيّا فمات، وبعضهم ميّتا، ففي الحيّ دية، وفي الميّت غرّة‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّ هذا إذا مات عاجلا بعد الضّرب، لأنّ موته بالفور يدلّ على أنّه مات من ضرب الجاني‏.‏ واختلفوا فيما إذا ماتت الأمّ المضروبة ثمّ خرجا ميّتين، أو خرج أحدهما ميّتا قبل موت الأمّ، ثمّ خرج الآخر ميّتا بعد موتها‏.‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجب شيء في الّذي خرج بعد موت الأمّ، وهو ميّت، لأنّه يجري مجرى أعضاء الأمّ، وسقط ضمان أعضائها بموتها‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب غرّتين في اللّذين خرجا ميّتين بعد موت الأمّ، وكذلك في الّذي خرج منهما بعد موتها، لأنّه جنين خرج بجناية، فوجب ضمانه كالّذي خرج قبل موت الأمّ، ولأنّه آدميّ موروث فلا يدخل في ضمان أمّه كما لو خرج حيّا فمات، وإلى هذا ذهب أشهب من المالكيّة‏.‏

وأمّا وجوب الكفّارة على من أسقط أجنّة خطأ‏.‏ فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى وجوب الكفّارة على الجاني عن كلّ جنين من التّوائم، لأنّه آدميّ معصوم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قَتَلَ مُؤمِنَاً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ‏}‏‏.‏

ويرى الحنفيّة أن لا كفّارة في الأجنّة إن خرجوا أمواتا، ولكن يندب للجاني أن يكفّر‏.‏

توى

التّعريف

1 - التّوى وزان الحصى، معناه في اللّغة الهلاك، يقال توى يتوى كرضي يرضى أي هلك، وأتواه اللّه فهو توّ‏.‏ قال في اللّسان‏:‏ التّوى بالقصر‏.‏ وقد يمدّ فيقال‏:‏ تواء‏.‏

وجاء في اللّسان أنّ التّوى الهلاك، وذهاب مال لا يرجى من توى المال يتوى توى‏.‏ ويستعمل الفقهاء هذه الكلمة في المعنى نفسه، أي الهلاك، وذهاب المال‏.‏

وقد عرّفه الحنفيّة في بحث الحوالة بالعجز عن الوصول إلى الحقّ، وذلك بجحود المحال عليه أو موته مفلسا كما سيأتي‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

بحث الفقهاء حكم التّوى في مواضع منها‏:‏ الحوالة، الوديعة، والرّهن، على التّفصيل التّالي‏:‏

أوّلاً‏:‏ التّوى في الحوالة

2 - اختلف الفقهاء فيما إذا توى حقّ المحال بموت المحال عليه أو إفلاسه فهل للمحال حقّ الرّجوع على المحيل أم لا ‏؟‏ فالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا أحال الشّخص آخر على ثالث بشروط الإحالة برئت ذمّة المحيل، ولا حقّ للمحال في أن يرجع على المحيل بأيّ وجه، حتّى إن تعذّر أخذ المحال به منه بفلس أو غيره، كجحد، أو مطل، أو موت، لأنّ الحوالة تنقل الدّين من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ بعدم رجوع المحال وإن شرط يسار المحال عليه، وصرّحوا بأنّه لو شرط الرّجوع عند التّعذّر بشيء ممّا ذكر لم تصحّ الحوالة أصلا‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ بعدم رجوع المحال ولو كانت الحوالة على غير مليء برضاه، إذا لم يشترط يسار المحال عليه‏.‏ واستثنى المالكيّة ما إذا كان يعلم المحيل فقط ‏(‏دون المحال‏)‏ بإفلاس المحال عليه، ففي هذه الصّورة يرجع المحال على المحيل، لأنّه غرّه‏.‏

أمّا الحنفيّة فقد ذهبوا إلى أنّ للمحال حقّ الرّجوع على المحيل في حالة التّوى، حيث قالوا‏:‏ لا يرجع المحال على المحيل إلا بالتّوى، بأن يجحد المحال عليه الحوالة ويحلف ولا بيّنة للمحيل ولا للمحال، أو أن يموت المحال عليه مفلسا عند أبي حنيفة، أو بأن يفلّسه الحاكم في حياته عند أبي يوسف ومحمّد، بناء على أنّ تفليس القاضي يصحّ عندهما ولا يصحّ عنده‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏حوالة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ التّوى في الوديعة

3 - الأصل في الوديعة أن لا يخرجها الوديع عن مكان عيّنه ربّ الوديعة لحفظها، فإذا حفظها الوديع في مكان عيّنه المودع، ولم يخش عليها فلا ضمان عليه بغير خلاف، لأنّه ممتثل لأمره غير مفرّط في ماله‏.‏

وإن خاف عليها سيلا وتوى - أي هلاكا - فأخرجها منه إلى حرزها فتلفت فلا ضمان عليه بغير خلاف بين الفقهاء أيضا، لأنّ نقلها في هذه الحالة تعيّن طريقا لحفظها، وهو مأمور بحفظها‏.‏ وإن لم يخف عليها فنقلها عن الحرز إلى ما دونه ضمنها، لأنّه خالفه في الحفظ المأمور به‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ وديعة‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّوى في الرّهن

4 - ذكر الفقهاء أنّه يجوز وضع الرّهن على يد عدل ويتمّ بقبضه، وفي هذه الحالة إذا هلك فهل يهلك من ضمان المرتهن أو الرّاهن ‏؟‏ فيه تفصيل وخلاف موضعه مصطلح‏:‏ ‏(‏رهن‏)‏‏.‏ لكن الحنفيّة صرّحوا بأنّه لو باعه العدل المسلّط على بيعه خرج عن كونه رهنا، لأنّه صار ملكا للمشتري، وصار ثمنه هو الرّهن، لأنّه قام مقامه، سواء أكان مقبوضا أم غير مقبوض حتّى لو توى عند المشتري كان على المرتهن ويهلك بالأقلّ من قدر الثّمن ومن الدّين، لبقاء عقد الرّهن في الثّمن لقيامه مقام المبيع المرهون‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏رهن‏)‏‏.‏

تواتر

التّعريف

1 - التّواتر في اللّغة‏:‏ التّتابع، وقيل‏:‏ هو تتابع الأشياء، وبينها فجوات وفترات‏.‏ والمتواتر‏:‏ الشّيء يكون هنيهة ثمّ يجيء الآخر، فإذا تتابعت فليست متواترة إنّما هي متداركة ومتتابعة‏.‏ والخبر المتواتر لغة‏:‏ أن يحدّثه واحد عن واحد‏.‏

وللخبر المتواتر في اصطلاح الأصوليّين والفقهاء عدّة تعاريف، وهي وإن كانت مختلفة في الألفاظ إلّا أنّها متّفقة في المعنى‏.‏

فعرّفه صاحب المحصول بأنّه‏:‏ خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم‏.‏

وقال صاحب كشف الأسرار‏:‏ هو خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه‏.‏

وعرّفه صاحب التّحرير بأنّه‏:‏ خبر جماعة يفيد العلم، لا بالقرائن المنفصلة‏.‏

وقال صاحب دستور العلماء‏:‏ التّواتر هو إخبار قوم دفعة أو متفرّقا بأمر لا يتصوّر عادة تواطؤهم وتوافقهم عليه بالكذب‏.‏

والفقهاء لا يقصرون استعماله على المعنى الاصطلاحيّ بل قد يعدّونه إلى المعنى اللّغويّ كما سيتبيّن ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الآحاد‏:‏

2 - الآحاد في اللّغة‏:‏ جمع أحد‏.‏

والأحد من أسماء اللّه تعالى‏:‏ وهو الفرد الّذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر‏.‏

والأحد‏:‏ بمعنى الواحد، وهو أوّل العدد‏.‏

وخبر الآحاد في الاصطلاح‏:‏ خبر لا يفيد بنفسه العلم «‏.‏ وقيل «ما يفيد الظّنّ «‏.‏

فالنّسبة بين التّواتر والآحاد التّضادّ وخبر الآحاد يشمل المشهور، والعزيز والغريب‏.‏ وتفصيل ذلك في علم مصطلح الحديث‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - اتّفق الأصوليّون على أنّ التّواتر يفيد العلم، والجمهور منهم ومن الفقهاء على أنّ ذلك العلم ضروريّ، وذهب أبو الحسين البصريّ والكعبيّ من المعتزلة وإمام الحرمين والدّقّاق من أصحاب الشّافعيّ إلى أنّه نظريّ، وتوقّف الآمديّ وفصّل الغزاليّ فقال‏:‏ هو ضروريّ بمعنى أنّه لا يحتاج في حصوله إلى الشّعور بتوسّط واسطة مفضية إليه، مع أنّ الواسطة حاضرة في الذّهن، وليس ضروريّا بمعنى أنّه حاصل من غير واسطة‏.‏

وحتّى يفيد التّواتر العلم لا بدّ أن تتوفّر فيه شروط معيّنة، بعضها يرجع إلى المخبرين وبعضها يرجع إلى المستمعين، وبعضها متّفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وفيما يلي الشّروط المتّفق عليها، أمّا الشّروط المختلف فيها ومناقشتها فتفصيلها في الملحق الأصوليّ وعلم مصطلح الحديث‏.‏

4 - فالشّروط الّتي ترجع إلى المخبرين وهي محلّ اتّفاق الأصوليّين أربعة‏:‏

أوّلها‏:‏ أن يخبروا عن علم لا عن ظنّ‏.‏

ثانيها‏:‏ أن يكون علمهم ضروريّا مستندا إلى محسوس‏.‏

ثالثها‏:‏ أن يستوي طرفاه ووسطه في هذه الصّفات، وفي كمال العدد‏.‏

رابعها‏:‏ العدد الكامل الّذي يفيد العلم، والمقصود بالكامل هو أقلّ عدد يورث العلم أو هو تعدّد النّقلة بحيث يمنع التّواطؤ عادة على الكذب‏.‏

واختلفوا في العدد فقيل‏:‏ أقلّه خمسة، وقيل‏:‏ اثنا عشر، وقيل‏:‏ عشرون‏.‏ وقيل‏:‏ أربعون، وقيل‏:‏ سبعون، وقيل‏:‏ ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر، وقيل‏:‏ عدد أهل بيعة الرّضوان «ألف وأربعمائة «‏.‏

وقيل‏:‏ ليس معلوما لنا لكنّا بحصول العلم الضّروريّ نتبيّن كمال العدد، لا أنّا بكمال العدد نستدلّ على حصول العلم‏.‏ وضابطه‏:‏ ما حصل العلم عنده، وهذا اختيار كثير من الأصوليّين منهم الغزاليّ، والرّازيّ، وابن الهمام و أمير بادشاه شارح التّحرير، وسعد الدّين التّفتازانيّ، وعبد العزيز البخاريّ صاحب «كشف الأسرار «‏.‏

وأمّا الشّروط الّتي ترجع إلى المستمعين فشرطان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لا يكون السّامع عالما بما أخبر به‏.‏

ثانيهما‏:‏ أن يكون أهلا لقبول العلم بما أخبر به‏.‏

أقسام التّواتر

5 - التّواتر ينقسم إلى لفظيّ ومعنويّ،

فاللّفظيّ‏:‏ هو ما تواتر لفظه كحديث‏:‏ «من كذب عليّ متعمّداً»‏.‏

والمعنويّ‏:‏ هو نقل رواة الخبر قضايا متعدّدة بينها قدر مشترك على جهة التّضمّن أو الالتزام‏.‏ أو هو نقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة تشترك في أمر يتواتر ذلك القدر المشترك، كما نقل عن شجاعة عليّ رضي الله عنه، وكرم حاتم، وكأحاديث المسح على الخفّين‏.‏

ثمّ إنّه لمّا كان الخبر المتواتر يفيد العلم القطعيّ فلا ينسخه إلا ما يفيد العلم القطعيّ مثله‏.‏ وقد اتّفق العلماء على جواز نسخ الخبر المتواتر بالخبر المتواتر، ثمّ اختلفوا في جواز نسخ المتواتر بالآحاد، فذهب الجمهور من الأصوليّين إلى منعه، وذلك لأنّ المتواتر قطعيّ وخبر الآحاد ظنّيّ فلا يبطله، لأنّ الشّيء لا يبطل أقوى منه، ونقل صاحب البرهان الإجماع عليه، ونقل صاحب تيسير التّحرير جوازه عند بعض العلماء‏.‏

وقال الرّازيّ في المحصول‏:‏ هو جائز في العقل غير واقع في السّمع عند الأكثرين‏.‏

وذهب الغزاليّ إلى جواز ذلك عقلا لو تعبّد به، ووقوعه سمعا في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولكن ذلك ممتنع بعد وفاته‏.‏ وذهب صاحب التّوضيح إلى جواز نسخ المتواتر بالمشهور من الآحاد فقط، وذلك لأنّه من حيث إنّه بيان يجوز بالآحاد، ومن حيث إنّه تبديل يشترط فيه التّواتر فيجوز بما هو متوسّط بينهما وهو المشهور‏.‏

6 - ثمّ إنّه لا خلاف بين العلماء في أنّ كلّ ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه، واختلفوا في وجوب التّواتر في محلّه ووضعه وترتيبه‏.‏

فذهب كثير من الأصوليّين إلى أنّ التّواتر ليس بشرط في محلّه ووضعه وترتيبه، بل يكثر فيها نقل الآحاد‏.‏قال السّيوطيّ‏:‏ المحقّقون من أهل السّنّة على وجوب التّواتر في ذلك أيضاً‏.‏ وللتّفصيل راجع الملحق الأصوليّ‏.‏

تواطؤ

التّعريف

1 - التّواطؤ مصدر تواطأ، وأصل فعله الثّلاثيّ‏:‏ وطئ‏.‏

ومعناه في اللّغة‏:‏ التّوافق، يقال‏:‏ تواطأنا على الأمر‏:‏ توافقنا، وتواطئوا عليه‏:‏ إذا توافقوا، وحقيقته كأنّ كلّا منهما وطئ ما وطئه الآخر، والمتواطئ المتوافق‏.‏

وفي حديث ليلة القدر‏:‏ «أرى رؤياكم قد تواطأت في السّبع الأواخر»‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّمالؤ‏:‏

2 - التّمالؤ في اللّغة‏:‏ الاجتماع والتّعاون، يقال‏:‏ تمالئوا على الأمر‏:‏ إذا تعاونوا، وقال ابن السّكّيت‏:‏ اجتمعوا عليه، وقال أبو عبيد‏:‏ يقال للقوم إذا تتابعوا برأيهم على أمر قد تمالئوا عليه‏.‏ وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنّه قتل سبعة نفر برجل قتلوه غيلة وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به، وفي رواية‏:‏ لقتلتهم، يقول‏:‏ لو تضافروا عليه وتعاونوا وتساعدوا‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

ب - التّضافر‏:‏

3 - ومعناه التّعاون والتّجمّع، يقال تضافر القوم‏.‏ إذا تعاونوا، وضافرته‏:‏ عاونته، قال ابن سيده‏:‏ تضافر القوم على الأمر‏.‏ تظاهروا وتعاونوا عليه‏.‏

وهذه الألفاظ متقاربة في المعنى بل كالمترادفة‏.‏

ج - التّصادق‏:‏

4 - التّصادق والمصادقة والصّداق والصّداقة والمخالّة بمعنى‏.‏ وهو مصدر تصادق، وأصل فعله صدق، يقال‏:‏ صدقه النّصيحة والإخاء أمحضه له، وتصادقا في الحديث وفي المودّة ضدّ تكاذبا‏.‏ والتّواطؤ توافق شخصين أو أكثر على أمر ما إمّا معا أو متعاقبين‏.‏

أمّا التّصادق فتصديق شخص لآخر على ما صدر منه،وعادة يكون أحدهما أسبق من الآخر‏.‏

الحكم التّكليفي

5 - يختلف الحكم التّكليفيّ للتّواطؤ باختلاف ما تووطئ عليه، وذلك يكون في مواطن منها‏:‏ الجنايات، والشّهادات، والرّضاع المحرّم، والإقرار بالنّسب، والإقرار بطلاق سابق، والوطء في حال الطّلاق قبل الدّخول، والرّجعة في العدّة‏.‏

أوّلاً‏:‏ التّواطؤ في الجنايات

6 - التّواطؤ في الجنايات إمّا أن يكون على النّفس بإزهاقها، أو على ما دون النّفس من أعضاء الجسد بإتلافها أو العدوان عليها‏.‏

الجناية على النّفس‏:‏

7 - إذا تواطأ جمع على قتل واحد معصوم الدّم عمداً عدواناً، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الجمع يقتلون بالفرد الّذي تمّ التّواطؤ على قتله، واستدلّوا بأدلّة‏:‏ منها، ما روى سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قتل سبعة من صنعاء قتلوا رجلا وقال‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا‏.‏

وعن عليّ أنّه قتل ثلاثة قتلوا رجلا، وعن ابن عبّاس أنّه قتل جماعة بواحد، ولم ينكر عليهم ذلك مع شهرته فصار إجماعا سكوتيّا‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ ولأنّ القصاص عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة كحدّ القذف، ويفارق الدّية فإنّها تتبعّض والقصاص لا يتبعّض، ولأنّ القصاص لو سقط بالاشتراك أدّى إلى التّسارع بالقتل به، فيؤدّي إلى إسقاط حكمة الرّدع والزّجر‏.‏

وحكي عن أحمد رواية أخرى‏:‏ لا يقتلون به وتجب عليهم الدّية، وهذا قول ابن الزّبير، والزّهريّ، وابن سيرين، وربيعة، وداود، وابن المنذر، وحكي عن ابن عبّاس‏.‏

وقال‏:‏ وروي عن معاذ بن جبل «وغيره «أنّه يقتل واحد منهم، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدّية، لأنّ كلّ واحد منهم مكافئ له فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد، ولأنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏الحُرُّ بِالحُرِّ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيهمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ فمقتضاه أنّه لا يؤخذ بالنّفس أكثر من نفس واحد، ولأنّ التّفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أنّ الحرّ لا يؤخذ بالعبد، والتّفاوت في العدد أولى‏.‏

ولكن جمهور الفقهاء بعد اتّفاقهم في الجملة على ‏(‏قتل الجماعة بالواحد‏)‏ اختلفوا في التّفصيل‏.‏ فقال الحنفيّة‏:‏ يقتل جمع بمفرد إن جرح كلّ واحد جرحا مهلكا معا، لأنّ زهوق الرّوح يتحقّق بالمشاركة، لأنّه غير متجزّئ بخلاف الأطراف، واشتراك الجماعة فيما لا يتجزّأ يوجب التّكامل في حقّ كلّ واحد منهم، فيضاف إلى كلّ واحد منهم كملا كأنّه ليس معه غيره كولاية الإنكاح، فإن كان جرح البعض مهلكا، وجرح الآخرين غير مهلك، فالقود على ذي الجرح المهلك، وعلى الآخرين التّعزير، والدّية - في الظّاهر - لتعمّدهم، أمّا إذا باشر القتل بعضهم وكان الآخرون نظارة أو مغرين فلا قود ولا دية‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يقتل الجمع المتمالئون على قتل شخص إن تمالئوا بضربه بنحو سيوف، أو بسوط من أحدهم وسوط من آخر، وهكذا حتّى مات فيقتلون به، لحديث عمر رضي الله عنه، هذا إذا كان جميع المتمالئين مكلّفين، فإن اشترك مكلّف مع صبيّ في قتل معصوم الدّم، فعلى المكلّف القصاص، وعلى عاقلة الصّبيّ نصف الدّية إن تمالآ على قتله‏.‏ وعندهم‏:‏ أنّه إن تعدّد من باشروا الضّرب أو الجرح العمد العدوان الّذي نشأ عنه الموت، فإن كانوا تمالئوا على قتله، يقتل الجميع بقتل واحد إن مات مكانه، أو رفع مغمورا حتّى مات، لا فرق بين الأقوى ضربا وغيره، وإن لم تكن ممالأة على قتله، بأن قصد كلّ منهم قتله بانفراده من غير اتّفاق مع غيره، أو قصد كلّ منهم ضربه بلا قصد قتل فمات‏.‏‏.‏‏.‏ قدّم الأقوى فعلا حيث تميّزت أفعالهم فيقتل، ويقتصّ ممّن جرح أو قطع، ويؤدّب من لم يجرح، فإن لم تتميّز الضّربات بأن تساوت أو لم يعلم الأقوى قتل الجميع إن مات مكانه حقيقة أو حكما، وإلا فواحد بقسامة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يقتل الجمع بواحد وإن تفاضلت الجراحات في العدد، والفحش، والأرش، حيث كان لها دخل في الزّهوق سواء أقتلوه بمحدّد، أم بمثقّل، أم ألقوه من شاهق، أو في بحر، لأنّ القصاص عقوبة للواحد على الواحد فيجب له على الجماعة كحدّ القذف، ولأنّه شرع لحقن الدّماء، فلو لم يجب عند الاشتراك لاتّخذ ذريعة إلى سفكها، ولحديث عمر رضي الله عنه‏.‏ أمّا من ليس لجرحه أو ضربه دخل في الزّهوق بقول أهل الخبرة فلا يعتبر‏.‏ ولو ضربوه بسياط، أو عصا خفيفة فقتلوه وضرب كلّ منهم لا يقتل، قتلوا إن تواطئوا أي اتّفقوا على ضربه‏.‏ وكانت جملة السّياط بحيث يقصد بها الهلاك‏.‏

وإن وقع مصادفة ولم يعلم المتأخّر ضرب غيره، فالدّية تجب عليهم باعتبار عدد الضّربات إن علم يقينا، فإن جهل أو شكّ فيه فالتّوزيع على الرّءوس كالتّوزيع في الجراح‏.‏

وإنّما لم يعتبر التّواطؤ في الجراحات والضّربات المهلك كلّ منها لو انفرد، لأنّها قاتلة في نفسها ويقصد بها الهلاك مطلقا، والضّرب الخفيف لا يظهر فيه قصد الإهلاك مطلقا إلا بالموالاة من واحد والمواطئ من جمع‏.‏

ولو ضرب اثنان شخصاً بسياط أو عصا خفيفة فقتلوه، وضرْب أحدهما يقتل، وضرْب الآخر لا يقتل، فإن سبق الضّرب الّذي يقتل كخمسين سوطا مثلا، ثمّ تبعه الضّرب الّذي لا يقتل كسوطين حالة ألمه من ضرب الأوّل، وكان الضّارب الثّاني عالما بضرب الأوّل اقتصّ منهما، فإن كان جاهلا به فلا قصاص، وعلى الأوّل منهما حصّة ضربه من دية العمد، وعلى الثّاني كذلك من دية شبهه باعتبار الضّربات‏.‏

وإن سبق الضّرب الّذي لا يقتل، ثمّ تبعه الّذي يقتل حال الألم، ولا تواطؤ، فلا قود على واحد منهما، بل يجب على الضّارب الأوّل حصّة ضربه من دية شبه العمد، وعلى الثّاني حصّة ضربه من دية العمد باعتبار الضّربات‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّ الجماعة إذا قتلوا واحدا فعلى كلّ واحد منهم القصاص، إذا كان كلّ واحد منهم لو انفرد بفعله وجب عليه القصاص‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ - بعد ذلك - روي ذلك عن عمر، وعليّ، والمغيرة بن شعبة، وابن عبّاس، وبه قال سعيد بن المسيّب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة‏.‏ وهو مذهب مالك، والثّوريّ، والأوزاعيّ، والشّافعيّ، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرّأي‏.‏

ولا يعتبر - عند الحنابلة - في وجوب القصاص على المشتركين التّساوي في سببه، فلو جرحه رجل جرحا، والآخر مائة فمات، كانا سواء في القصاص والدّية، لأنّ اعتبار التّساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كلّ وجه، ولو احتمل التّساوي لم يثبت الحكم، لأنّ الشّرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفى باحتمال الوجود، بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم، ولأنّ الجرح الواحد قد يموت منه دون المائة، ولأنّ الجراح إذا أفضت إلى قتل النّفس سقط اعتبارها، فكان حكم الجماعة كحكم الواحد، ألا ترى أنّه لو قطع أطرافه كلّها فمات وجبت دية واحدة، كما لو قطع طرفه فمات‏.‏

الجناية على ما دون النّفس‏:‏

8 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الجماعة إذا اشتركوا في جرح أو جناية على طرف موجبين للقصاص وجب القصاص على جميعهم، لما روي أنّ شاهدين شهدا عند عليّ رضي الله عنه على رجل بالسّرقة فقطع يده، ثمّ جاءا بآخر فقالا‏:‏ هذا هو السّارق وأخطأنا في الأوّل فردّ شهادتهما على الثّاني وغرّمهما دية الأوّل، وقال‏:‏ لو علمت أنّكما تعمّدتما لقطعتكما، ولأنّه أحد نوعي القصاص فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأنفس‏.‏

ويجب القصاص عندهم على المشتركين إذا لم يتميّز فعل أحدهم عن فعل الآخر، كأن يضعوا سيفا على يد شخص ويتحاملوا عليه حتّى تبين يده، فإن قطع كلّ واحد منهم من جانب، أو ضرب كلّ واحد ضربة فلا قصاص، لأنّ كلّ واحد منهم لم يقطع اليد، ولم يشارك في قطع جميعها‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا تقطع اليدان، أو الأيدي باليد الواحدة، لانعدام المماثلة، لأنّ الشّرط في الأطراف المساواة في المنفعة والقيمة بخلاف النّفس، فإنّ الشّرط فيها المساواة في العصمة‏.‏ ويتعيّن ذلك وجها في مذهب أحمد، لأنّه روي عنه أنّ الجماعة لا يقتلون بالواحد، وهذا تنبيه على أنّ الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن تميّزت جنايات من جماعة ولم يمت المجنيّ عليه ولم يوجد تمالؤ منهم، فيقتصّ من كلّ واحد منهم بقدر فعله، وإن لم تتميّز الجنايات مع عدم التّمالؤ فعليهم دية جميع الجنايات، وأمّا إن تمالئوا اقتصّ من كلّ بقدر الجميع تميّزت الجنايات أم لا‏.‏

ثانياً‏:‏ تواطؤ الزّوجين على طلاق في وقت سابق

9 - إذا أقرّ رجل بطلاق امرأته المعتدّة وأسند هذا الطّلاق إلى وقت سابق على وقت الإقرار وصدّقته المرأة‏.‏ فقد اختلف الفقهاء‏:‏

فقال الحنفيّة‏:‏ لو أقرّ بطلاقها منذ زمان ماض فإنّ الفتوى على أنّها تطلق وتعتدّ من وقت الإقرار مطلقا، سواء صدّقته أم كذّبته، أم قالت لا أدري نفيا لتهمة المواضعة أي الموافقة على الطّلاق وانقضاء العدّة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن أقرّ صحيح بطلاق بائن أو رجعيّ متقدّم على وقت إقراره، ولا بيّنة له، استأنفت امرأته العدّة من وقت إقراره، فيصدّق في الطّلاق لا في إسناده للوقت السّابق، ولو صدّقته لأنّه يتّهم على إسقاط العدّة وهي حقّ للّه تعالى، فإن كانت له بيّنة فالعدّة من الوقت الّذي أسندت البيّنة الطّلاق فيه‏.‏ والمريض كالصّحيح في هذا عند قيام البيّنة، فإن لم يكن للمريض بيّنة ورثته أبدا إن مات من ذلك المرض، ولو مات بعد انقضاء العدّة، ولو تزوّجت غيره‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو قال أنت طالق أمس ولم يقصد إنشاء طلاق بل قصد الإخبار بالطّلاق أمس في هذا النّكاح، وصدّقته تحسب عدّتها من الوقت الّذي ذكره‏.‏

ويفهم من مذهب الحنابلة مثل ما قال الشّافعيّة‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّواطؤ على الرّجعة في العدّة

10 - اتّفق الفقهاء على أنّ عدّة المطلّقة الرّجعيّة إذا انقضت فقال الزّوج‏:‏ كنت راجعتها في العدّة وصدّقته فهي رجعة، لأنّه أخبر عمّا لا يملك إنشاءه في الحال، فكان متّهما، إلا أنّه بالتّصديق ترتفع التّهمة، وإن كذّبته لا تثبت، لأنّ قوله خبر، والخبر مجرّد دعوى تملّك بضعها أو منفعته بعد ظهور انقطاع ملكه، ومجرّد دعوى ملك في وقت لا يملك إنشاءه فيه لا يجوز قبولها مع إنكار المدّعى عليه إلا ببيّنة، بخلاف ما إذا كان في وقت يمكنه فيه إنشاؤه كأن يقول في العدّة‏:‏ كنت راجعتك أمس ثبتت وإن كذّبته، لأنّه ليس متّهما فيه لتمكّنه من أن ينشئه في الحال، أو يجعل ذلك إنشاء إن كانت الصّيغة تحتمله‏.‏

تواعد

انظر‏:‏ وعد ‏.‏

توافق

التّعريف

1 - للتّوافق في اللّغة معان‏:‏ منها‏:‏ الاتّفاق والتّظاهر وعدم الاختلاف، يقال‏:‏ وافقه موافقة ووفاقا واتّفق معه وتوافقا‏.‏ والوفق من الموافقة بين الشّيئين وهو أيضا قدر الكفاية‏.‏ يقال‏:‏ حلوبته وفق عياله‏.‏ أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه‏.‏

2 - وتوافق العددين في اصطلاح المحاسبين والفرضيّين‏:‏ أن لا يعدّ - أي لا يغني - أقلّهما الأكثر لكن يعدّهما عدد ثالث غير الواحد كالثّمانية مع العشرين‏.‏ فإنّ الثّمانية لا تعدّ العشرين لكن تعدّهما الأربعة، فإنّها تعدّ الثّمانية بمرّتين والعشرين بخمس مرّات فهما متوافقان بالرّبع، وذلك لأنّ العدد العادّ لهما مخرج جزء ذلك الوفق بينهما، فلمّا عدّهما الأربعة وهي مخرج الرّبع كانا متوافقين به‏.‏ وكذلك يعدّهما اثنان فيتوافقان بالنّصف أيضا‏.‏ وكذلك الثّمانية والعشرة يعدهما اثنان‏.‏

والتّوافق بين العددين هو أحد أربعة أشياء هي‏:‏ التّماثل، والتّداخل، والتّباين، والتّوافق، وهي ليست بابا من علم الفرائض بل من محض مسائل الحساب منفصل عن مسائل الفرائض،وغايته أنّها يحتاج إلى معرفتها في تقسيم التّركة على أعداد المستحقّين بلا كسر‏.‏ وانظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏قسمة التّركات‏)‏‏.‏

توبة

التّعريف

1 - التّوبة في اللّغة العود والرّجوع، يقال‏:‏ تاب إذا رجع عن ذنبه وأقلع عنه‏.‏

وإذا أسند فعلها إلى العبد يراد به رجوعه من الزّلّة إلى النّدم، يقال‏:‏ تاب إلى اللّه توبة ومتابا‏:‏ أناب ورجع عن المعصية، وإذا أسند فعلها إلى اللّه تعالى يستعمل مع صلة «على يراد به رجوع لطفه ونعمته على العبد والمغفرة له، يقال‏:‏ تاب اللّه عليه‏:‏ غفر له وأنقذه من المعاصي‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ثمَّ تَابَ عَلَيهمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ‏}‏‏.‏

وفي الاصطلاح التّوبة هي‏:‏ النّدم والإقلاع عن المعصية من حيث هي معصية لا، لأنّ فيها ضررا لبدنه وماله، والعزم على عدم العود إليها إذا قدر‏.‏

وعرّفها بعضهم بأنّها الرّجوع عن الطّريق المعوجّ إلى الطّريق المستقيم‏.‏

وعرّفها الغزاليّ بأنّها‏:‏ العلم بعظمة الذّنوب، والنّدم والعزم على التّرك في الحال والاستقبال والتّلافي للماضي، وهذه التّعريفات وإن اختلفت لفظا هي متّحدة معنى‏.‏

وقد تطلق التّوبة على النّدم وحده إذ لا يخلو عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «النّدم توبة» والنّدم توجّع القلب وتحزّنه لما فعل وتمنّي كونه لم يفعل‏.‏ قال ابن قيّم الجوزيّة‏:‏ التّوبة في كلام اللّه ورسوله كما تتضمّن الإقلاع عن الذّنب في الحال والنّدم عليه في الماضي والعزم على عدم العود في المستقبل، تتضمّن أيضا العزم على فعل المأمور والتزامه، فحقيقة التّوبة‏:‏ الرّجوع إلى اللّه بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره، ولهذا علّق سبحانه وتعالى الفلاح المطلق على التّوبة حيث قال‏:‏

‏{‏وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّهَا المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاعتذار‏:‏

2 - الاعتذار في اللّغة مصدر اعتذر أصله من العذر، وأصل العذر إزالة الشّيء عن جهته يقال‏:‏ اعتذر عن فعله أي أظهر عذره، واعتذر إليّ أي طلب قبول معذرته، واعتذر إلى فلان فعذره أي‏:‏ أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة أو في الظّاهر‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الاعتذار إظهار ندم على ذنب تقرّ بأنّ لك في إتيانه عذراً، والتّوبة هي النّدم على ذنب تقرّ بأنّه لا عذر لك في إتيانه فكلّ توبة ندم ولا عكس‏.‏

وقد يكون المعتذر محقّا فيما فعله، بخلاف التّائب من الذّنب‏.‏

ب - الاستغفار‏:‏

3 - الاستغفار في اللّغة طلب المغفرة، وأصل الغفر التّغطية والسّتر، يقال‏:‏ غفر اللّه ذنوبه أي سترها‏.‏ وفي الاصطلاح طلب المغفرة بالدّعاء والتّوبة أو غيرهما من الطّاعة‏.‏ قال ابن القيّم‏:‏ الاستغفار إذا ذكر مفردا يراد به التّوبة مع طلب المغفرة من اللّه، وهو محو الذّنب وإزالة أثره ووقاية شرّه، والسّتر لازم لهذا المعنى، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كَانَ غَفَّارَاً‏}‏، فالاستغفار بهذا المعنى يتضمّن التّوبة‏.‏

أمّا عند اقتران إحدى اللّفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى، والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله، كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَأَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه‏}‏‏.‏

أركان وشروط التّوبة

4 - ذكر أكثر الفقهاء والمفسّرين أنّ للتّوبة أربعة شروط‏:‏ الإقلاع عن المعصية حالاً، والنّدم على فعلها في الماضي، والعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا‏.‏ وإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ آدميّ، فيشترط فيها ردّ المظالم إلى أهلها أو تحصيل البراءة منهم‏.‏ وصرّحوا كذلك بأنّ النّدم على المعصية يشترط فيه أن يكون للّه، ولقبحها شرعاً‏.‏

وهذا معنى قولهم‏:‏ النّدامة على المعصية لكونها معصية «، لأنّ النّدامة على المعصية لإضرارها ببدنه، وإخلالها بعرضه أو ماله، أو نحو ذلك لا تكون توبة، فلو ندم على شرب الخمر والزّنا للصّداع، وخفّة العقل، وزوال المال، وخدش العرض لا يكون تائبا‏.‏

والنّدم لخوف النّار أو طمع الجنّة يعتبر توبة‏.‏

واعتبر بعض الفقهاء هذه الشّروط أو أكثرها من أركان التّوبة فقالوا‏:‏ التّوبة النّدم مع الإقلاع والعزم على عدم العود، وردّ المظالم، وقال بعضهم‏:‏ النّدم ركن من التّوبة، وهو يستلزم الإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العودة، وأمّا ردّ المظالم لأهلها فواجب مستقلّ ليس شرطا في صحّة التّوبة‏.‏ ويؤيّد هذا الرّأي ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «النّدم توبة»‏.‏ وعلى جميع الاعتبارات لا بدّ من التّنبيه على أنّ الإقلاع عن الذّنب لا يتمّ إلا بردّ الحقوق إلى أهلها، أو باستحلالهم منها في حالة القدرة، وهذا كما يلزم في حقوق العباد يلزم كذلك في حقوق اللّه تعالى، كدفع الزّكوات، والكفّارات إلى مستحقّيها‏.‏

وردّ الحقوق يكون حسب إمكانه، فإن كان المسروق أو المغصوب موجودا ردّه بعينه، وإلا يردّ المثل إن كانا مثليّين والقيمة إن كانا قيميّين، وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه، وتصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده‏.‏

فإن كان عليه فيها حقّ، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى وشرب الخمر فتوبته بالنّدم والعزم على عدم العود، وسيأتي تفصيله في آثار التّوبة‏.‏

إعلان التّوبة

5 - قال ابن قدامة‏:‏ التّوبة على ضربين باطنة وحكميّة، فأمّا الباطنة‏:‏ فهي ما بينه وبين ربّه تعالى، فإن كانت المعصية لا توجب حقّا عليه في الحكم كقبلة أجنبيّة أو الخلوة بها، وشرب مسكر، أو كذب، فالتّوبة منه النّدم والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «النّدم توبة» وقيل‏:‏ التّوبة النّصوح تجمع أربعة أشياء، النّدم بالقلب، والاستغفار باللّسان، وإضمار أن لا يعود، ومجانبة خلطاء السّوء، وإن كانت توجب عليه حقّا للّه تعالى أو لآدميّ كمنع الزّكاة والغصب، فالتّوبة منه بما ذكرنا، وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدّي الزّكاة ويردّ المغصوب أو مثله إن كان مثليّا، وإلّا قيمته‏.‏ وإن عجز عن ذلك نوى ردّه متى قدر عليه، فإن كان عليه فيها حقّ في البدن، فإن كان حقّا لآدميّ كالقصاص وحدّ القذف اشترط في التّوبة التّمكين من نفسه وبذلها للمستحقّ، وإن كان حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى، وشرب الخمر فتوبته أيضا بالنّدم، والعزم على ترك العود ولا يشترط الإقرار به، فإن كان ذلك لم يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه، والتّوبة فيما بينه وبين اللّه تعالى، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر اللّه تعالى، فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه» «فإنّ الغامديّة حين أقرّت بالزّنى لم ينكر عليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك»، وإن كانت معصية مشهورة فذكر القاضي أنّ الأولى الإقرار به ليقام عليه الحدّ، لأنّه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحدّ عليه، والصّحيح أنّ ترك الإقرار أولى، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرّض للمقرّ عنده بالرّجوع عن الإقرار فعرّض لماعز»، وللمقرّ عنده بالسّرقة بالرّجوع مع اشتهاره عنه بإقراره، وكره الإقرار حتّى إنّه قيل لمّا قطع السّارق كأنّما أسف وجهه رماداً، ولم يرد الأمر بالإقرار ولا الحثّ عليه في كتاب ولا سنّة،ولا يصحّ له قياس‏.‏ إنّما ورد الشّرع بالسّتر والاستتار والتّعريض للمقرّ بالرّجوع عن الإقرار‏.‏

«وقال لهزال وكان هو الّذي أمر ماعزاً بالإقرار يا هزال لو سترته بثوبك كان خيراً لك»‏.‏

وقال أصحاب الشّافعيّ‏:‏ توبة هذا إقراره ليقام عليه الحدّ وليس بصحيح لما ذكرنا، ولأنّ التّوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجبّ ما قبلها، كما ورد في الأخبار مع ما دلّت عليه الآيات في مغفرة الذّنوب بالاستغفار وترك الإصرار‏.‏

وأمّا البدعة فالتّوبة منها بالاعتراف بها، والرّجوع عنها، واعتقاد ضدّ ما كان يعتقد منها‏.‏

عدم العود

6 - لا يشترط في التّوبة عدم العود إلى الذّنب الّذي تاب منه عند أكثر الفقهاء، وإنّما تتوقّف التّوبة على الإقلاع عن الذّنب والنّدم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته، فإن عاوده مع عزمه حال التّوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية، ولم تبطل توبته المتقدّمة، ولا يعود إليه إثم الذّنب الّذي ارتفع بالتّوبة، وصار كأن لم يكن وذلك بنصّ الحديث‏:‏ «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له»‏.‏

وقال بعضهم يعود إليه إثم الذّنب الأوّل، لأنّ التّوبة من الذّنب بمنزلة الإسلام من الكفر، والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه، فإذا ارتدّ عاد إليه الإثم الأوّل مع الرّدّة‏.‏ والحقّ أنّ عدم معاودة الذّنب واستمرار التّوبة شرط في كمال التّوبة ونفعها الكامل لا في صحّة ما مضى منها‏.‏ هذا واشترط الشّافعيّة في ثبوت بعض أحكام التّوبة إصلاح العمل، فلا تكفي التّوبة حتّى تمضي عليه مدّة تظهر فيها آثار التّوبة ويتبيّن فيها صلاحه على تفصيل يأتي في آثار التّوبة‏.‏

التّوبة من بعض الذّنوب

7 - تصحّ التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند جمهور الفقهاء، فالتّوبة تتبعّض كالمعصية وتتفاضل في كمّيّتها كما تتفاضل في كيفيّتها، فكلّ ذنب له توبة تخصّه، ولا تتوقّف التّوبة من ذنب على التّوبة من بقيّة الذّنوب، كما لا يتعلّق أحد الذّنبين بالآخر، وكما يصحّ إيمان الكافر مع إدامته شرب الخمر والزّنى تصحّ التّوبة عن ذنب مع الإصرار على آخر‏.‏ ونقل ابن القيّم قولا بعدم قبول التّوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، وهو رواية عن أحمد ثمّ قال‏:‏ والّذي عندي في هذه المسألة أنّ التّوبة لا تصحّ من ذنب مع الإصرار على غيره من نوعه، وأمّا التّوبة من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلّق له به ولا هو من نوعه فتصحّ، كما إذا تاب من الرّبا، ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإنّ توبته من الرّبا صحيحة، وأمّا إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النّسيئة أو بالعكس، أو تاب من تناول الحشيشة وأصرّ على شرب الخمر أو بالعكس فهذا لا تصحّ توبته، كمن يتوب عن زنى بامرأة وهو مصرّ على الزّنى بغيرها‏.‏

أقسام التّوبة

8 - صرّح بعض فقهاء الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّوبة نوعان‏:‏

توبة في الباطن، وتوبة في الظّاهر‏.‏

فأمّا التّوبة في الباطن‏:‏ فهي ما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ، فينظر في المعصية فإن لم تتعلّق بها مظلمة لآدميّ، ولا حدّ للّه تعالى، كالاستمتاع بالأجنبيّة فيما دون الفرج، فالتّوبة منها أن يقلع عنها ويندم على فعل ما فعل، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها‏.‏

والدّليل على، ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنْفُسَهمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلا اللَّهُ وَلمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا‏}‏ الآية‏.‏

وإن تعلّق بها حقّ آدميّ، فالتّوبة منها أن يقلع عنها، ويندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها، وأن يبرأ من حقّ الآدميّ، إمّا بأن يؤدّيه أو يسأله حتّى يبرئه منه، وإن لم يقدر على صاحب الحقّ نوى أنّه إن قدر أوفاه حقّه‏.‏ وإن تعلّق بالمعصية حدّ للّه، كحدّ الزّنى والشّرب، فإن لم يظهر ذلك، فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه»‏.‏

وأمّا التّوبة في الظّاهر - وهي الّتي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشّهادة، فإن كانت المعصية فعلا كالزّنى والسّرقة لم يحكم بصحّة التّوبة عند الشّافعيّة حتّى يصلح عمله، وقدّروها بسنة أو ستّة أشهر، أو حتّى ظهور علامات الصّلاح على اختلاف أقوالهم خلافا لجمهور الفقهاء فإنّهم لم يشترطوا إصلاح العمل بعد التّوبة، وإن كانت المعصية قذفا أو شهادة زور فلا بدّ من إكذاب نفسه كما سيأتي‏.‏

التّوبة النّصوح

9 - أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين بالتّوبة النّصوح ليكفّر عنهم سيّئاتهم فقال‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏‏.‏ واختلفت عبارات العلماء فيها، وأشهرها ما روي عن عمر وابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، وروي مرفوعا أنّ التّوبة النّصوح هي الّتي لا عودة بعدها كما لا يعود اللّبن إلى الضّرع‏.‏ وقيل‏:‏ هي النّدم بالقلب، والاستغفار باللّسان، والإقلاع عن الذّنب، والاطمئنان على أنّه لا يعود‏.‏

حكم التّوبة

10 - التّوبة من المعصية واجبة شرعا على الفور باتّفاق الفقهاء، لأنّها من أصول الإسلام المهمّة وقواعد الدّين، وأوّل منازل السّالكين، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعَاً أيُّها المُؤمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

وقت التّوبة

11 - إذا أخّر المذنب التّوبة إلى آخر حياته، فإن ظلّ آملا في الحياة غير يائس بحيث لا يعلم قطعا أنّ الموت يدركه لا محالة فتوبته مقبولة عند جمهور الفقهاء، وإن كان قريباً من الموت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهو الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ‏}‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»‏.‏

وإن قطع الأمل من الحياة وكان في حالة اليأس - مشاهدة دلائل الموت - فاختلفوا فيه‏:‏ قال المالكيّة - وهو قول بعض الحنفيّة‏:‏ ووجه عند الحنابلة، ورأي عند الشّافعيّة، ونسب إلى مذهب الأشاعرة‏:‏ إنّه لا تقبل توبة اليائس الّذي يشاهد دلائل الموت، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحَدَهم المَوتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ‏}‏ الآية‏.‏ قالوا‏:‏ إنّ الآية في حقّ المسلمين الّذين يرتكبون الذّنوب ويؤخّرون التّوبة إلى وقت الغرغرة، بدليل قوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ لأنّه تعالى جمع بين من أخّر التّوبة إلى حضور الموت من الفسقة وبين من يموت وهو كافر، فلا تقبل توبة اليائس كما لا يقبل إيمانه‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه يقبل التّوبة ما لم يغرغر» وهذا يدلّ على أنّه يشترط لصحّة التّوبة صدورها قبل الغرغرة، وهي حالة اليأس وبلوغ الرّوح الحلقوم‏.‏ وعند بعض الحنفيّة - وهو وجه آخر عند الحنابلة - وعزاه بعضهم إلى مذهب الماتريديّة أنّ المؤمن العاصي تقبل توبته ولو في حالة الغرغرة، بخلاف إيمان اليائس فإنّه لا يقبل، ووجه الفرق أنّ الكافر غير عارف باللّه تعالى، ويبدأ إيمانا وعرفانا، والفاسق عارف وحاله حال البقاء، والبقاء أسهل من الابتداء ولإطلاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ‏}‏‏.‏

ولا خلاف بين الفقهاء في عدم قبول توبة الكافر بإسلامه في حالة اليأس بدليل قوله تعالى حكاية عن حال فرعون‏:‏ ‏{‏حَتَّى إذَا أَدْرَكَه الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنَّه لا إلهَ إلا الَّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ الآنَ وَقَدْ عَصَيتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِن المُفْسِدينَ‏}‏‏.‏

من تقبل توبتهم ومن لا تقبل

12 - تقدّم أنّ اللّه سبحانه وتعالى يقبل التّوبة من الكافر والمسلم العاصي بفضله وإحسانه كما وعد في كتابه المجيد حيث قال‏:‏ ‏{‏وَهوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُو عَن السَّيِّئاتِ‏}‏ لكن هناك بعض الحالات اختلف الفقهاء في قبول التّوبة فيها نظرا للأدلّة الشّرعيّة الخاصّة بها ومن هذه الحالات‏:‏

أ - توبة الزّنديق‏:‏

13 - الزّنديق هو الّذي لا يتمسّك بشريعة ولا يتديّن بدين‏.‏

وجمهور الفقهاء - المالكيّة والحنابلة وهو ظاهر المذهب عند الحنفيّة ورأي عند الشّافعيّة- على أنّه لا تقبل توبة الزّنديق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا‏}‏ الآية‏.‏ والزّنديق لا يظهر منه بالتّوبة خلاف ما كان عليه، لأنّه كان يظهر الإسلام مسرّاً بالكفر، ولأنّ التّوبة عند الخوف عين الزّندقة‏.‏

لكن المالكيّة صرّحوا بقبول التّوبة من الزّنديق إذا أظهرها قبل الاطّلاع عليه‏.‏ وفي رواية عند الحنفيّة وهي رواية عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ الزّنديق تجري عليه أحكام المرتدّ فتقبل توبته بشروطها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏‏.‏

وألحق الشّافعيّة بالزّنادقة الباطنيّة بمختلف فرقهم، كما ألحق بهم الحنابلة الحلوليّة والإباحيّة وسائر الطّوائف المارقين من الدّين‏.‏

ب - توبة من تكرّرت ردّته‏:‏

14 - صرّح الحنابلة - وهو رواية عند الحنفيّة ونسب إلى مالك بأنّه لا تقبل توبة من تكرّرت ردّته، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَمْ يَكُن اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهمْ وَلا لِيَهْدِيهمْ سَبِيلاً‏}‏‏.‏ ولقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً لَنْ تُقْبَلَ تَوبَتُهمْ‏}‏ والازدياد يقتضي كفرا جديدا لا بدّ من تقدّم إيمان عليه‏.‏ ولما روي أنّ ابن مسعود رضي الله عنه أتي برجل فقال له‏:‏ إنّه أتي بك مرّة فزعمت أنّك تبت وأراك قد عدت فقتله‏.‏

ولأنّ تكرار الرّدّة منه يدلّ على فساد عقيدته وقلّة مبالاته بالدّين فيقتل‏.‏

وقال الشّافعيّة وهو المشهور في مذهب الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ إنّه تقبل توبة المرتدّ ولو تكرّرت ردّته، لإطلاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَد سَلَفَ‏}‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا اللّه، فإذا قالوا لا إله إلّا اللّه عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على اللّه»‏.‏

لكنّهم صرّحوا بأنّ المرتدّ المتكرّرة منه الرّدّة إذا تاب ثانيا عزّر بالضّرب أو بالحبس ولا يقتل، قال ابن عابدين‏:‏ إذا ارتدّ ثانيا ثمّ تاب ضربه الإمام وخلّى سبيله، وإن ارتدّ ثالثا ثمّ تاب ضربه ضربا وجيعا وحبسه حتّى تظهر عليه آثار التّوبة ويرى أنّه مخلص ثمّ خلّى سبيله، فإن عاد فعل به هكذا أبدا ما دام حتّى يرجع إلى الإسلام‏.‏

وقد جاء مثل هذا عن المالكيّة والشّافعيّة‏.‏

ج - توبة السّاحر‏:‏

15 - السّحر علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانيّة يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفيّة‏.‏ وعرّفه ابن خلدون بأنّه علم بكيفيّة استعدادات تقتدر النّفوس البشريّة بها على التّأثيرات في عالم العناصر بغير معيّن‏.‏

واتّفق الفقهاء على أنّ تعليمه وتعلّمه حرام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ فذمّهم على تعليمه، «ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّه من السّبع الموبقات»‏.‏ قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم‏.‏

وقد صرّح الحنفيّة بأنّه لا تقبل توبة السّاحر فيجب قتله ولا يستتاب، وذلك لسعيه بالفساد ولا يلزم من عدم كفره مطلقا عدم قتله، لأنّ قتله بسبب سعيه بالفساد، فإذا ثبت ضرره ولو بغير مكفّر يقتل دفعا لشرّه كالخنّاق وقطّاع الطّريق‏.‏ وهذا مذهب الحنابلة‏.‏

وحدّ السّاحر عند الحنابلة القتل ويكفر بتعلّمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته‏.‏

وفي رواية أخرى عن أحمد ما يدلّ على أنّه لا يكفر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا حكم بكفره فإن كان مجاهرا به يقتل إلا أن يتوب فتقبل توبته، وإن كان يخفيه فهو كالزّنديق لا تقبل توبته‏.‏

16 - والدّليل على عدم قبول توبة السّاحر حديث جندب بن عبد اللّه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حدّ السّاحر ضربة بالسّيف» فسمّاه حدّاً والحدّ بعد ثبوت سببه لا يسقط بالتّوبة‏.‏ ولما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «إنّ السّاحرة سألت أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم - وهم متوافرون - هل لها من توبة ‏؟‏ فما أفتاها أحد»، ولأنّه لا طريق لنا إلى إخلاصه في توبته لأنّه يضمر السّحر ولا يجهر به، فيكون إظهار الإسلام والتّوبة خوفا من القتل مع بقائه على تلك المفسدة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن علّم أو تعلّم السّحر واعتقد تحريمه لم يكفر، وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه كفر، لأنّه كذّب اللّه تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتدّ‏.‏

فالظّاهر من كلامهم أنّه تقبل توبة السّاحر كما تقبل توبة المرتدّ‏.‏

وهذا ما قرّره الحنابلة في الرّواية الثّانية عندهم حيث قالوا‏:‏ إنّ السّاحر إن تاب قبلت توبته، لأنّه ليس بأعظم من الشّرك، والمشرك يستتاب ومعرفة السّحر لا تمنع قبول توبته، فإنّ اللّه تعالى قبل توبة سحرة فرعون‏.‏

وفي الجملة، فالخلاف في قبول توبة هذه الطّوائف، إنّما هو في الظّاهر من أحكام الدّنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقّهم، وأمّا قبول اللّه لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرا أو باطنا فلا خلاف فيه، فإنّ اللّه تعالى لم يسدّ باب التّوبة عن أحد من خلقه وقد قال في المنافقين‏:‏ ‏{‏إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهمْ لِلَّهِ فَأولئكَ مَعَ المُؤمنينَ وَسَوفَ يُؤتِي اللَّهُ المُؤمِنينَ أَجْرَاً عَظِيمَاً‏}‏‏.‏

وتفصيل ما يتّصل بالسّحر ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏سحر‏)‏‏.‏

آثار التّوبة

أوّلاً‏:‏ في حقوق العباد

17 - التّوبة بمعنى النّدم على ما مضى والعزم على عدم العود لمثله لا تكفي لإسقاط حقّ من حقوق العباد‏.‏ فمن سرق مال أحد أو غصبه أو أساء إليه بطريقة أخرى لا يتخلّص من المسائلة بمجرّد النّدم والإقلاع عن الذّنب والعزم على عدم العود، بل لا بدّ من ردّ المظالم، وهذا الأصل متّفق عليه بين الفقهاء‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ إن كانت المعصية قد تعلّق بها حقّ ماليّ كمنع الزّكاة والغصب والجنايات، في أموال النّاس وجب مع ذلك تبرئة الذّمّة عنه بأن يؤدّي الزّكاة، ويردّ أموال النّاس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحلّ المستحقّ فيبرّئه، ويجب أن يعلم المستحقّ إن لم يعلم بالحقّ وأن يوصّله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه هناك‏.‏

فإن مات سلّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره رفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته، فإن تعذّر تصدّق به على الفقراء بنيّة الضّمان له إن وجده‏.‏

وإن كان معسرا نوى الضّمان إذا قدر‏.‏ فإن مات قبل القدرة فالمرجوّ من فضل اللّه تعالى المغفرة، وإن كان حقّا للعباد ليس بماليّ كالقصاص وحقّ القذف فيأتي المستحقّ ويمكّنه من الاستيفاء، فإن شاء اقتصّ وإن شاء عفا‏.‏

ومثله ما ذكره فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة مع تفصيل في بعض الفروع حسب نوعيّة المعصية وتناسب التّوبة معها كما هو مبيّن في مواضعها‏.‏

ثانياً‏:‏ في حقوق اللّه تعالى

18 - حقوق اللّه الماليّة كالزّكوات والكفّارات والنّذور لا تسقط بالتّوبة، بل يجب مع التّوبة تبرئة الذّمّة بأدائها كما تقدّم‏.‏ أمّا حقوق اللّه تعالى غير الماليّة كالحدود مثلا فقد اتّفق الفقهاء على أنّ جريمة قطع الطّريق ‏(‏الحرابة‏)‏ تسقط بتوبة القاطع قبل أن يقدر عليه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيهمْ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏ فدلّت هذه الآية على أنّ قاطع الطّريق إذا تاب قبل أن يظفر به سقط عنه الحدّ، والمراد بما قبل القدرة في الآية أن لا تمتدّ إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع‏.‏

وتوبته بردّ المال إلى صاحبه إذا كان قد أخذ المال لا غير، مع العزم على أن لا يعود لمثله في المستقبل‏.‏

فيسقط عنه القطع أصلا، ويسقط عنه القتل حدّاً، وكذلك إن أخذ المال وقتل حتّى لم يكن للإمام أن يقتله حدّا، ولكن يدفعه إلى أولياء المقتول يقتلونه قصاصا إذا تحقّقت شروطه‏.‏

وإن لم يأخذ المال ولم يقتل فتوبته النّدم على ما فعل والعزم على التّرك في المستقبل‏.‏

ولا يسقط عن المحارب حدّ الزّنى والشّرب والسّرقة إذا ارتكبها حال الحرابة ثمّ تاب قبل القدرة عليه عند المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر، وهو احتمال عند الحنابلة، ومفهوم إطلاق الحنفيّة في هذه الحدود‏.‏

والمذهب عند الحنابلة وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة أنّها تسقط عن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه لعموم الآية‏.‏ أمّا حدّ القذف وما عليه من حقوق الآدميّين من الأموال والجراح فلا تسقط عن المحارب كغير المحارب إلا أن يعفى له عنها‏.‏

19 - أمّا في غير المحاربة فإنّ الحدود المختصّة باللّه تعالى كحدّ الزّنى والسّرقة وشرب الخمر فلا تسقط بالتّوبة عند الحنفيّة، وهو المشهور عند المالكيّة، والأظهر عند الشّافعيّة، ورواية عند الحنابلة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهمَا‏}‏

وهذا عامّ في التّائبين وغيرهم، ولأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامديّة، وقطع الّذي أقرّ بالسّرقة، وقد جاءوا تائبين يطلبون التّطهير بإقامة الحدّ، وقد سمّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة فقال في حقّ المرأة‏:‏ لقد تابت توبة لو قسّمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم»‏.‏

والرّأي الثّاني وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة ورأي لبعض المالكيّة أنّه إن تاب من عليه حدّ من غير المحاربين يسقط عنه الحدّ لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإنْ تَابَا وَأصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما‏}‏‏.‏

وذكر حدّ السّارق ثمّ قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيهِ‏}‏‏.‏

على أنّ بعض الفقهاء فرّقوا بين التّوبة من هذه الجرائم قبل الرّفع للإمام وبعده فيقولون بإسقاط التّوبة لها قبل الرّفع لا بعده‏.‏ كما فصّل في مصطلحاتها، وقد تقدّم أنّ عقوبة الرّدّة تسقط بالتّوبة قبل الرّفع وبعده‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ ردّة‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ في التّعزيرات

20 - يسقط التّعزير بالتّوبة عند عامّة الفقهاء إذا لم يكن فيه حقّ من حقوق العباد، كترك الصّلاة والصّوم مثلاً، لأنّ المقصود من التّعزير التّأديب والإصلاح، وقد ثبت بالتّوبة، بخلاف حقوق العباد كالضّرب والشّتم، لأنّها مبنيّة على المشاحّة كما مرّ‏.‏

وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏تعزير‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ في قبول الشّهادة

21 - يشترط في قبول الشّهادة العدالة، فمن ارتكب كبيرة أو أصرّ على صغيرة سقطت عدالته ولا تقبل شهادته إذا لم يتب، وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏

وإذا تاب عن المعصية وقيل بقبول توبته تقبل شهادته عند جمهور الفقهاء، سواء أكانت المعصية من الحدود أم من التّعزيرات، وسواء أكانت بعد استيفاء الحدود أم قبله‏.‏ واختلفوا في قبول شهادة المحدود في القذف بعد التّوبة‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه إذا تاب المحدود في قذف تقبل شهادته، وتوبته بتكذيب نفسه فيما قذف به، واستدلّوا بأنّ اللّه سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏{‏فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وَأولئكَ هم الفَاسِقُون إلا الَّذِينَ تَابُوا‏}‏، فاستثنى التّائبين بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الَّذِينَ تَابُوا‏}‏ والاستثناء من النّفي إثبات، فيكون تقديره ‏{‏إلا الَّذينَ تَابُوا‏}‏ فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين، لأنّ الجمل المعطوفة بعضها على بعض بالواو، والواو للجمع فتجعل الجمل كلّها كالجملة الواحدة، فيعود الاستثناء إلى جميعها‏.‏ ولأنّ القاذف لو تاب قبل إقامة الحدّ عليه تقبل شهادته عند الجميع، ولا جائز أن تكون إقامة الحدّ عليه هي الموجبة لردّ الشّهادة، لأنّه فعل الغير وهو مطهّر أيضا‏.‏ ولأنّه لو أسلم تقبل شهادته فهذا أولى‏.‏ ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقول لأبي بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة‏:‏ تب أقبل شهادتك‏.‏ ولم ينكر ذلك عليه منكر، فكان إجماعا‏.‏ وقال سعيد بن المسيّب شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال، أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، ونكل زياد، فجلد عمر الثّلاثة وقال لهم‏:‏ توبوا تقبل شهادتكم، فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبَدَاً وَأولئكَ هُم الفَاسِقُون‏}‏، ووجهه أنّ اللّه تعالى ردّ شهادته على التّأبيد نصّا، فمن قال هو مؤقّت إلى وجود التّوبة يكون ردّا لما اقتضاه النّصّ فيكون مردودا‏.‏

والقياس على الكفر وغيره من الجرائم لا يجوز، لأنّ القياس المخالف للنّصّ لا يصحّ‏.‏ ولأنّ ردّ الشّهادة معطوف على الجملة المتقدّمة إلى ‏{‏فَاجْلِدُوهمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً‏}‏ وهي حدّ فكذا هذا، فصار من تمام الحدّ، ولهذا أمر الأئمّة به، والحدّ لا يرتفع بالتّوبة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ هُم الفَاسِقُون‏}‏ ليس بحدّ، لأنّ الحدّ يقع بفعل الأئمّة- أي الحكّام -، والفسق وصف قائم بالذّات، فيكون منقطعا عن الأوّل، فينصرف الاستثناء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الَّذِينَ تَابُوا‏}‏ إلى ما يليه ضرورة، لا إلى الجميع‏.‏

فالمحدود في القذف إذا تاب لا يسمّى فاسقا لكنّه لا تقبل شهادته وذلك من تمام الحدّ‏.‏